الأدب العربى >> الشعر >> العصر الحديث و المعاصر >> خليل حاوي >> وجوه السندباد >>
قصائدخليل حاوي
- **************
- ( 1 ) وَجْهانِ
- لَمْ تَرَ الغربةَ في وجهي
- ولي رسمٌ بِعَينَيْها
- طريٌّ ما تغَيَّرْ
- آمِنٌ في مَطْرحٍ لا يعْتريهْ
- ما اعترى وجهي
- الذي جارَتْ عليهِ
- دمغَةُ العُمرِ السفيهْ
- كيْفَ - ربي - لا تَرَى
- ما زَوَّرَ العُمرُ وحفَّر,
- كيفَ مرَّ العُمرُ من بعْدي,
- وما مرَّ,
- فظلَّتْ طفلةُ الأمسِ وأَصغَرْ
- تغْزل الرسمَ على وجهي,
- وتحكي ما حكته لي مِرَارْ
- عن صبيٍّ غصَّ بالدمعَةِ
- في مقهى المطَار
- "غِبْتَ عنِّي,
- والثواني مَرِضَتْ,
- ماتَتْ على قلبي,
- فما دَارَ النَّهارْ,
- ... ليلُنَا في الأرْزِ من دهرٍ تُراهُ
- أم تُراهُ البارحهْ?
- ... صدرُكَ الطَّيِّبُ
- نفسُ الدفءِ والعُنْفِ,
- ونفسُ الرائحَهْ,
- وجهك الأسمرُ..."
- أدري أن لي وجهًا طريًّا
- أسمرًا لا يعْتريهْ
- ما اعترى وجهي
- الذي جارَتْ عليهِ
- دمغَةُ العُمر السفيهْ
- وجهيَ المنْسوجَ من شتَّى الوجوهْ
- وجهَ مَنْ راح يتيهْ:
- **************
- ( 2 ) سجينٌ في قطارْ
- مُرَّةٌ ليلتهُ الأولى
- ومُرٌّ يومُهُ الأولُ
- في أرضٍ غريبَهْ,
- مُرَّةً كانتْ ليَاليهِ الرتيبَهْ,
- طالما عضَّ على الجوعِ
- على الشهوةِ حرَّى
- وانطَوى يعْلِكُ ذكْرَى
- يمسحُ الغَبرةَ عن أمتعة ملءَ الحقيبَهْ.
- حَجَرٌ تحملُهُ الدوَّامةُ الحرَّى,
- سجينٌ في قطَارْ
- ما دَرَى ما نكهةُ الشمسِ,
- وما طِيبُ الغُبارْ
- ورشاشُ الملحِ في ريج البحارْ.
- ***
- مِن أَسابيعَ وفي غرفتِهِ
- تلك الكئيبهْ.
- تأكلُ الغبرةُ أشيَاءَ الحقيبَهْ
- تأكلُ الوجهَ الذي خلَّفَهُ
- لمَّا تعرَّى
- ومضى وجهًا طريًّا
- ما له أَمسٌ وذِكْرى.
- **************
- ( 3 ) مع الغَجَر
- مَنْ تُرَى يحْتلُّ ذاكَ الفنْدقَ الريفيَّ,
- عُرسُ الجنِّ فيه... مُحْرَقَهْ!
- لَهَبُ الرقصِ,
- ورقصٌ في اللهَبْ,
- والتعَبْ?
- مَنْ تُرَى يتعبُ مِنْ
- لينِ الزنودِ المحرقَهْ
- مَنْ تُرَى يرتاحُ في حُمَّى السريرْ!
- صاحَ: "هذا الكأسُ لي
- من أَهرقَهْ?"
- ضَحِكَتْ:
- "ثوبي الدِّمَشْقِي الحرير ْ
- لستُ أَدري, لَم أَسَلْ مَنْ مَزَّقَهْ"
- ***
- أَتْقَنَ الدوخةَ من خَصْرٍ لخَصْرٍ,
- عادَ من عُرسِ الغَجَرْ
- دمغَةٌ في وجههِ,
- في دمهِ شلاَّلُ نارٍ
- وعلى قُمْصانِهِ ألفُ أثَرْ.
- موجةٌ واحدةٌ في دمهِ,
- في زوغةِ الشمسِ,
- وحمَّى المعْدنِ المصْهورِ,
- في البركانِ, في وَهْجِ الثمارْ,
- موجةٌ تغزلُ في المرجِ فراشاتٍ,
- وتغْفو في خوابي الخمرِ
- تغْفو في قوارير البَهارْ,
- موجةٌ فوَّرها في دمهِ
- عرسُ الغَجَرْ
- عاد منْه ما له ذاكرةٌ
- تُحصي الصُوَرْ
- عمرُهُ ثانيةٌ عَبْرَ الثواني
- يتلقَّاها, وينْسى ما عَبَرْ,
- عمرهُ عمرُ الغَجَرْ
- وله وجهُ الغَجَرْ
- وجهُ من تبصُقُهُ الدوامةُ الحرَّى
- فيرسو في المواني
- ومحطاتِ القطَارْ
- لِبَنَاتِ "البارِ" ما في جيْبهِ,
- ضحكةٌ
- حشرجةٌ خلفَ الستارْ,
- وجهُ من يتعَبُ من نارٍ
- فيرتاحُ لنارْ.
- **************
- ( 4 ) بعْد الحمَّى
- وجهُ مَنْ يصْحو من الحمَّى:
- فراغٌ, شاشةٌ ترتجُّ
- عينٌ مطْفأَه,
- وصريرُ المدفأَهْ.
- **************
- ( 5 ) جنَّةُ الضجَر
- وجهُ ذاك الطَّالبِ القاسي
- على أعصَابِ عينٍ متعَبَهْ
- في زوايا متحَفٍ, في مكتَبَهْ
- وجهُهُ يعْرقُ مصْلوبًا
- على سِفْرٍ عتيقْ
- وعلى صمتِ الصُورْ,
- ووجوهٍ من حَجَرْ,
- ثم يرتاحُ إلى الصَّمتِ العَريقْ
- حيث لا عمرٌ
- يبوخُ اللونُ فيه والبريقْ,
- ضَجَرٌ في دمهِ
- في عينهِ الصَّمتُ الذي
- حجَّرَهُ طولُ الضجَرْ
- وجهُهُ مِن حجَرٍ
- بينَ وجوهٍ من حَجَرْ
- **************
- ( 6 ) اَلأَقنعَهْ, اَلقرينهْ, جسْرُ واترلو
- لو دعاهُ عابرٌ للبيْتِ,
- للدفءِ, لكأسٍ مترعَهْ,
- سوفَ يحكي ما حكى المذياعُ,
- يحكي: "سرعةُ الصَّاروخِ,
- تسعيرُ الريالْ,
- جوُّنا المشحونُ بالإِشعاعِ
- والموتى بحمَّى الخوفِ,
- لا, شؤْمٌ, محالْ,
- طَيِّبٌ جوُّ العِيال,
- اِبتذالْ".
- لو دعاهُ عابِرٌ للبيْتِ
- لن يمضى معَهْ,
- لو دعتْهُ اِمرأَهْ,
- ربَّما طابَتْ لها الخمرُ
- وطاب الشعْرُ.. نِعْمَ التوطئهْ..
- "ما بِنا لا ما بِنا من حاجةٍ
- للضوءِ.. أَو للمدفأَهْ.."
- ***
- ما لها فرَّتْ وغابتْ
- حلوةً كانت, وكانت طيِّعَهْ!
- ***
- عَتْمةُ الشارعِ,
- والضوءُ الذي يجلو فراغ الأقنعَهْ
- وقنَاعٌ مسَّهُ, حدَّقَ فيهِ,
- لو دعاهُ? آه لن يمضى معَهْ
- "أَنْتَ! هلْ أَنتَ? بَلَى,
- لا, لستَ, لا, عفوًا,
- ضبابٌ موحل يُعْمي مصَابيحَ الطَّريقْ,
- إنَّ في وجهكَ بعْضَ الشبْهِ
- من وجه صديقْ".
- فلأَكُنْ ذاكَ الصَّديقْ
- كُنْتُ أَمشي معهُ في دربِ "سوهو"
- وهو يمشي وحدَهُ في لا مكانْ
- وجههُ أَعتقُ من وجهي ولكنْ
- ليس فيه أَثرُ الحمَّى
- وتحفيرُ الزمانْ,
- وجههُ يَحْكي بأَنَّا توءَمانْ.
- ولماذا ساقني للجسرِ
- حيْثُ الموجُ إِثْرَ الموجِ
- يدوي يتدَاعى
- مُدْخنَاتُ الفحْمِ تعْوي
- من محطَّاتِ القطَارْ
- والبخَار ْ
- وضبابٌ كالحٌ ينبعُ
- من صوب البحارْ,
- كلُّها تغزلُ حول الجسرِ
- حولي أُفعُوانًا, أُخْطُبوطًا
- وَسِخَ الأظفارِ, أَشداقًا رهيبَهْ,
- "مُتعَبٌ أَنتَ وحضنُ الماءِ
- مرجٌ دائمُ الخضرةِ, نيسانٌ,
- أَراجيحٌ تغَنِّي, وسريرْ
- مخمليُّ اللينِ شفَّافٌ حرير,
- وبناتُ الماء ما زِلْنَ
- على الدهرِ صبايا
- ربَّما كانَ لديهنَّ
- قواريرٌ من البلسمِ,
- أَعشابٌ, تعَازيمٌ عجيبَهْ
- تمسحُ التحفيرَ عن وجهكَ
- تسقيهِ غِوَى سُمْرتهِ الأولى المَهيبَهْ
- لونَ لبنانٍ وطِيبَهُ".
- مُتعَب, دوَّامةٌ عمياءُ,
- هذا اللولبُ الملتفُّ حولي,
- ذلك التيارُ دوني والدُّوارْ,
- متعبٌ.. ماءٌ.. سريرْ..
- متعَبٌ.. ماءٌ.. أَراجيحُ الحريرْ..
- متعبٌ.. ماءٌ.. دُوَارْ..
- وتلمَّستُ حديدَ الجسرِ
- كانَ الجسرُ ينحلُّ ويهوي,
- صورٌ تهوي, وأَهوي مَعَها,
- أَهوي لِقَاعٍ لا قَرَارْ
- وتلمَّستُ صديقي, أينَ أنتَ,
- كيفَ غابْ?
- اَلضبابُ الرطبُ في كفِّي
- وفي حَلْقي وأعصابي ضَبابْ
- ربَّما عادتْ إلى عنصُرِها الأَشياءُ
- وانحلَّتْ ضبابْ.
- **************
- ( 7 ) في عَتمَة الرَّحِم
- خفِّفُوا الوطءَ
- على أعصَابِنا يا عابرينْ
- نحنُ ما مُتْنَا, تعِبنَا
- من ضبابٍ وَسِخٍ,
- مهتريءِ الوجهِ, مُدَاجي
- يتمطَّى أُفْعُوانًا, أُخطُبوطًا,
- وَأَحاجي,
- رَحِمُ الأرضِ ولا الجوُّ اللعِينْ
- خفِّفُوا الوِطءَ
- على أعصَابِنَا يا عابرينْ,
- نحنُ في عَتْمَةِ قبوٍ مُطْمئنِّ
- نمسحُ الحمَّى, ونصْحو, ونغنِّي
- نتخفَّى,
- ونخفِّي العُمرَ من دربِ السنِينْ
- خفِّفُوا الوطءَ
- على أعصَابِنا يا عابرينْ.
- **************
- ( 8 ) الوجهانِ
- بيْنَمَا أمسحُ عن وجهي
- تُرابَ القبوِ, ذكراهُ,
- تلفَّتُّ, انحنَيتْ
- فوقَ عَينَيْها, رأيتْ
- وجهَ طفلٍ
- غصَّ بالدمعَةِ في مقهى المطَارْ,
- وهي تحكي ما حَكَتْهُ لي مِرارْ,
- وكأَنَّ العُمْرَ ما فاتَ على زهوِ
- الصَبايا وحكاياتِ الصِغَارْ
- **************
- ( 9 ) الوجه السرمدي
- عشتِ في حنوةِ بيتٍ, ما وقاكِ
- أَنه بيت على الصَّخْرِ تعَمَّرْ,
- إنَّ خلف البابِ,
- في صمت الزوايا
- يحفرُ الموْجُ, وتدوي الْهمْهَمَهْ
- إنَّ في وجهكِ آثارًا
- من الموجِ, وما محَّى, وحفَّرْ,
- وأنا عُدتُ من التيَّارِ وجهًا
- ضاعَ في الحمَّى,
- وفي الموج تكسَّرْ,
- بعْضنا ماتَ, ادفنِيهِ, ولماذا
- نعْجِن الوهمَ ونطْلي الجُمْجُمَهْ
- ***
- أسندِي الأَنقاضَ بالأَنقاضِ
- شُدِّيها.. على صدري اطمئنِّي,
- سوف تخضرُّ,
- غدًا تخضرُّ في أعضاء طفلٍ
- عمرُهُ منْكِ ومنِّي
- دَمُنَا في دمِهِ يسترجعُ
- الخصْبَ المغَنِّي,
- حُلْمُهُ ذِكرى لنَا,
- رجع لِما كنَّا وَكانْ,
- ويمر العُمرُ مهزومًا
- ويَعْوي عنْد رِجلَيهِ
- ورِجْلَيْنا الزمانْ
المزيد...
العصور الأدبيه