الأدب العربى >> الشعر >> العصر الحديث و المعاصر >> نازك الملائكة >> دكان القرائين الصغيرة >>
قصائدنازك الملائكة
- في ضباب الحُلْم طوّفتُ مع السارين في سوق عتيقِ
- غارق في عطر ماء الورد, وامتدّ طريقي
- وسّع الحُلْم عيوني, رش سُكْرًا في عروقي
- ثملت روحي بأشذاء التوابلْ
- وصناديق العقيقِ
- وبألوان السجاجيد,
- بعطر الهيل والحنّاء,
- بالآنية الغَرْقى الغلائلْ
- سرقت روحي المرايا, واستداراتْ المكاحلْ
- كنتُ نَشْوى, في ازرقاق الحُلْم أمشي وأسائلْ
- أين دكّان القرائين الصغيرهْ
- أشتري من عنده في الحلم قرآنًا جميلاً لحبيبي
- يقتنيه لحن حبٍّ,
- قَمرًا في ليلةٍ ظلماء,
- خبزًا وخميرهْ
- عندما في الغد يَرْحَلْ
- من مطار الأمس والذكرى حبيبي
- يتوارى وجهه خلف التواءات الدروبِ
- **
- سرتُ في السوق,
- إذا مرّ بقربي عابرٌ ما,
- أتمهّل
- ثم أسألْ:
- سيّدي في أي دكّان ترى ألقى القرائين الصغيرهْ
- أيّ قرآن, سواءٌ أحواشيه حروف ذهبيّهْ
- أم نقوش فارسيّهْ
- أي قرآن?..... وفي حلمي يقول العابرُ
- لحظة يا أختُ, قرآنكِ في آخر هذا المنحنى, في (مندلي)
- اسألي عن (مندلي)
- فهو دكان القرائين الصغيرهْ
- ويغيب العابرُ...
- وجهه في الحُلْم لونٌ فاترُ...
- ثم أمضى في الكرى باحثةً عن (مندلي)
- حيث أبتاعُ بما أملك قرآنًا وأهديه حبيبي
- حينما يرحلُ عني في غدٍ وجه حبيبي
- وتغطيه المسافاتُ وأبعاد الدروبِ
- حيث أبتاع من الدكان قرآنًا صغيرًا لحبيبي
- ثم أهديه له عند الوداعْ
- ليخبّي ضوءه في صدره بُرْعَم طيبِ
- وليؤويه إليه حرز حبي
- وعصافيري المشوقاتِ,
- وتلويح ذراعي
- واختلاجاتِ شراعي
- **
- سرتُ في حلميَ في السوق قريرهْ
- أسرتْ روحي السجاجيدُ الوثيرهْ
- وأواني عطرِ ماء الورد, والكعبةُ صورهْ
- نعستْ ألوانها في حضن حانوتٍ,
- وفي حلمي مضيتُ
- في دمي شوقٌ لدكان القرائين الصغيرهْ
- وحلمتُ
- وحلمتُ
- بقرائينَ كثيراتٍ, وأختارُ أنا منها, وأهدي لحبيبي
- في صباح الغد قرآنًا, ويؤويه حبيبي
- صدرَهُ تعويذةً تدرأ عنه الليلَ والسَّعْلاة في أسْفَارِهِ
- تزرع اسم الله في رحلته, تسقيه من أسرارِه
- **
- كان كلّ الناس لي يبتسمون
- وعلى لهفة أشواق سؤالي ينحنونْ
- زرعوا حلمي ورودا
- وسّعوا السوقَ زوايا وحدودا
- كلهم كانوا يشيرون إلى بعض مكانٍ غامض إذ يعبرونْ
- يهمسون:
- اسألي عن (مندلي)
- ابحثي عن (مندلي)
- دكّة في آخر السوق وتُلْفين القرائين الصغيرهْ
- أطعموا قلبيَ من نكهة كُتْبٍ عنبريّاتِ كثيرهْ
- بينها ألقى عصافيري القرائين الصغيرهْ
- حيث أختارُ وأهدي لحبيبي
- واحدًا يحميه من ليل الدروبِ
- ووشايات المغيبِ
- واحدًا يحمله في الطائرهْ
- باقةً من زنبق الله, وسُحْبًا ماطرهْ
- **
- سرتُ طول الليل في حلمي, ولكن أين ألقى (مندلي)?
- شَعَّب السوق حناياه,
- ترامَى,
- وتَمدّدْ
- صار عشرين, دوربًا وزوايا
- وفروعًا وخبايا
- وتعدّدْ
- وتعدّدْ
- حيرتي أبصرتها طالعة من قعر آلاف المرايا
- قذفتني الامتداداتُ ومصتني الحنايا
- وأنا أشرب كوبًا فارغًا, والسوق مُجْهَدْ
- تحت خطوي, ودمي يلهث شوقًا
- وأنا أعطش في أرض الرؤى, أذرعها غربًا وشرقًا
- لستُ أُسْقى, لست أُسْقَى
- ضاع مني (مندلي)
- ضاعَ, لا القرآنُ, لا الأشذاء لي
- ما الذي بعد عطوري, وقرائيني تَبَقَّى
- **
- مرَّ بي في سوق حلمي ألفُ عابرْ
- كلهم قالوا: - وراء المنحنى التاسع يحيا (مندلي)
- حيث قرآني وعطري المتناثر
- حيث أَلْقَى (مندلي)
- (مندلي) يا أنهرا من عَسَلِ
- يا ندًى منتثرًا فوق بيادرْ
- يا شظايا قمر مغتسلِ
- في دموعي,
- يا أزاهيرُ من الياقوت نامت في غدائرْ
- يا هتافاتِ أذان الفجر من فوق منائر
- (مندلي) يا (مندلي)
- اسمه فوق الشفاهْ
- فلّة غامضة اللون,
- وشمعٌ,
- وتراتيلُ صلاهْ
- وزروع ومياهْ
- وأنا مأخوذة الأشواق أدعوه ولكن لا أراهْ
- وأنا من دون قرآن حبيبي
- ومع الفجر سيرحَلْ
- في انبلاج الغَسَق القاني حبيبي
- وشفاهي صلواتٌ تترسَّل
- وعناقيد دموع تتهدّلْ
- انبثق يا عطش السوق انبثق يا (مندلي)
- يا قرائين حبيبي
- يا ارتعاش السنبلِ
- في حقول الحلم من ليلى العصيبِ
- **
- أين مني (مندلي)? والبائع المصروع من عطر القرائينْ?
- ذاهلاً مستغرقًا في حُلُمِ?
- ضائعًا هيمان مأخوذًا بأفق مبهمِ
- يتشاجى, وجدُهُ سُكْرٌ وتلوينْ
- صاعدًا من ولهٍ في عالم من عنبر مضطرمِ
- تائهًا من شوقه عَبْرَ بساتينْ
- عطشات النخل, والقرآن في تمُّوزها أمطار تشرينْ
- (مندلي) يا ظمأى يا جرح سكّينْ
- في خدود وشرايينْ
- **
- وطريقي نحو دكان القرائين الصغيرهْ
- فيه أوراد لها عطر عجيبُ
- كل من ذاق شذاها تائهٌ,
- منسرق الروح,
- شريدٌ
- لا يؤوبُ
- مندلي يا حقل نسرينْ
- ذقتُ أسرارَكَ واستبعدتُ كوبي
- لم أعد أعرف فجري من غروبي
- وتواجدْتُ وضيّعتُ دروبي
- وتشوقت لقرآنٍ, على رفّكَ غافٍ,
- أشتريه لحبيبي
- **
- وسمعتُ العابرينْ
- يصفون المخزن المنشود: تسري فيه أصداءْ
- وتلاوين, وموسيقى وأضواءْ
- تصرع السامع صرعًا باختلاجاتِ حنينْ
- وشموعٍ ودوالي ياسمينْ
- آه لو أني وصلتُ
- آه حتى لو تمزقْتُ,
- تبعثرتُ,
- اكتويتْ
- لو تذوقتُ العطورَ السارباتِ
- حول دكان القرائين الصغيرهْ
- آه لو أمسكتُ في كفّي قرآنًا,
- كدوريّ حنون القَسَماتِ
- واحد من ألف قرآن حواليه ضبابٌ,
- وشذى وردٍ,
- وموسيقى مثيرهْ
- ليس يقوَى قَطُّ إنسانٌ بأن يصغي إليها
- يسقط الصاحي صريعًا, غير واعٍ, ضائعًا في شاطئيها
- آه لو أني أطبقتُ عليه شفتَيّا
- هو قرآنُ حبيبي
- آه لو لامستُ رياهُ بأطراف يديّا
- هو وِرْدى, وامتلائي, ونضوبي
- والنشيد المحرق المخبوء في قعر دمي, في مقلتيّا
- **
- وانتهى السوقُ وفي حلمي يَئستُ
- وعلى دكّة آمالي الطعينات جلستُ
- وانتحبتُ
- لم يَعُدْ في السوق من ركن قصيِّ
- لم أقلّبْهُ... وتاهتْ (مندلي)...
- غرقَتْ في عمق بحر من ضبابٍ سندسيِّ
- واختفت في ظل غابات سكونٍ أبديِّ
- لم يدع يأسيَ حتى سحبة القوس على الأوتار لي
- ضاع حتى الظلّ مني, وتبقّتْ لي روًى من طَللِ
- أين أبوابكِ يا ترتيلتي,
- يا (مندلي)
- يا عطور الهَيْل والقرآنِ يا وجه نبيِّ
- يا شراعًا أبيضًا تحت مساء عنبيِّ
- **
- وإذن ماذا سأهدي لحبيبي
- في غد حينَ يسافر?
- فرغتْ كفّي من القرآنِ غاضتْ في صَحَارايَ المعاصِر
- وخوى خدّايَ إلاّ من غلالات شحوبي
- وحبيبي سيغادرْ
- دون قرآنٍ, هديّه...
- غضة تلمس خدّيهِ كما يلمس عصفورٌ مُهَاجرْ
- جبهة الأفق برشّات غناءٍ عسليّهْ
- وحبيبي سيسافر
- خاوى الكف من القرآن, من عطر البيادرْ
- وحكايات المنائر
- وأنا أبقى شجيه
- كظهيرات من الحزن عرايا غيهبيّهْ
- ضاع قرآني, وضاعت (مندلي)
- واختفى وجهُ حبيبي
- خلف غيم مُسْدَلِ
- وامتدادات سهوبٍ وسهوبِ
- فوداعًا يا قرائيني, وداعًا (مندلي)
- وإلى أن نتلاقى يا حبيبي
- وإلى أن نتلاقى يا حبيبي
المزيد...
العصور الأدبيه