الأدب العربى >> الشعر >> العصر العباسي >> ابن الفارض >> شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً >>
قصائدابن الفارض
شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً
ابن الفارض
- شربنا على ذكرِ الحبيبِ مدامة ً
- سَكِرْنا بها، من قبلِ أن يُخلق الكَرمُ
- لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يديرها
- هِلالٌ، وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجمُ
- ولولا شذاها ما اهتديتُ لحانها
- ولو لا سناها ما تصوَّرها الوهمُ
- ولم يُبْقِ مِنها الدَّهْرُ غيرَ حُشاشَة ٍ
- كأنَّ خَفاها، في صُدورِ النُّهى كَتْمُ
- فإنْ ذكرتْ في الحيِّ أصبحَ أهلهُ
- نشاوى ولا عارٌ عليهمْ ولا إثمُ
- ومنْ بينِ أحشاءِ الدِّنانِ تصاعدتْ
- ولم يَبْقَ مِنْها، في الحَقيقَة ِ، إلاّ اسمُ
- وإنْ خَطَرَتْ يَوماً على خاطِرِ امرِىء ٍ
- أقامَتْ بهِ الأفْراحُ، وارتحلَ الهَمُ
- ولو نَظَرَ النُّدمانُ ختْمَ إنائِها،
- لأسكرهمْ منْ دونها ذلكَ الختمُ
- ولو نَضَحوا مِنها ثَرى قَبْرِ مَيتٍ،
- لعادَتْ إليهِ الرُّوحُ، وانْتَعَشَ الجسْمُر
- ولو طرحوا في فئِ حائطِ كرمها
- عليلاً وقدْ أشفى لفارقهُ السُّقمُ
- ولوْ قرَّبوا منْ حلها مقعداً مشى
- وتنطقُ منْ ذكري مذاقتها البكمُ
- ولوْ عبقتْ في الشَّرقِ أنفاسُ طيبها
- وفي الغربِ مزكومٌ لعادَ لهُ الشَّمُّ
- ولوْ خضبتْ منْ كأسها كفُّ لامسٍ
- لما ضلَّ في ليلٍ وفي يدهِ النَّجمُ
- ولوْ جليتْ سرَّاً على أكمهٍ غداً
- بصيراً ومنْ راو وقها تسمعُ الصُّمُّ
- ولو أنّ ركْباً يَمّمَوا تُرْبَ أرْضِها،
- وفي الرَّكبِ ملسوعٌ لماضرَّهُ السمُّ
- ولوْ رسمَ الرَّقي حروفَ اسمها على
- جبينِ مصابٍ جنَّ أبرأهُ الرَّسمُ
- وفوقَ لِواء الجيشِ لو رُقِمَ اسمُها،
- لأسكرَ منْ تحتَ الِّلوا ذلكَ الرَّقمُ
- تُهَذّبُ أخلاقَ النّدامى ، فيَهْتَدي،
- بها لطريقِ العزمِ منْ لالهُ عزمُ
- ويَكْرُمُ مَنْ لم يَعرِفِ الجودَ كَفُّهُ،
- ويَحلُمُ، عِندَ الغيظِ، مَن لا لَهُ حِلْمُ
- ولو نالَ فَدْمُ القَوْمِ لَثْمَ فِدامِها،
- لَأكسَبَهُ مَعنى شَمائِلِها اللّثْمُ
- يقولونَ لي صفها فأنتَ بوصفها
- خَبيرٌ، أجَلْ! عِندي بأوصافِها عِلْمُ
- صفاءٌ، ولا ماءٌ، ولُطْفٌ، ولاهَواً،
- ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ
- تقدَّمَ كلَّ الكائناتِ حديثها
- قديماً، ولا شَكلٌ هناكَ، ولا رَسْمُ
- وقامَتْ بِها الأشْياءُ، ثَمّ، لحِكْمَة ٍ،
- بها احتجبتْ عنْ كلِّ منْ لالهُ فهمُ
- وهامتْ بها روحي بحيث تمازجا اتّـ
- حاداً ولا جرمٌ تخلَّلهُ جرمُ
- وكَرْمٌ ولا خَمْرٌ، ولي أُمُّها أُمُّ
- وكرمٌ ولا خمرٌ وفي أمِّها أمُّ
- ولُطْفُ الأواني، في الحَقيقَة ِ، تابِعٌ
- للطفِ المعاني والمعاني بها تنمو
- وقدْ وقَعَ التَّفريقُ، والكُلُّ واحِدٌ،
- فأرواحنا خمرٌ وأشباحنا كرمُ
- ولا قبلها قبلٌ ولا بعدَ بعدها
- وقبليَّة ُ الأبعادِ فهيَ لها حتمُ
- وعَصْرُ المَدى منْ قَبْلِهِ كان عصْرها،
- وعهدُ أبينا بعدها ولها اليتمُ
- محاسِنُ، تَهْدي المادِحينِ لِوَصْفِها،
- فَيَحسُنُ فيها مِنهمُ النَّثرُ والنّظمُ
- ويَطرَبُ مَن لم يَدرِها، عندَ ذِكرِها،
- كمُشْتاقِ نُعْمٍ، كلّما ذُكِرَتْ نُعْمُ
- وقالوا شربتَ الإثمَ كلاَّ وإنَّما
- شَرِبتُ التي، في تَرْكِها، عندي الإثمُ
- هنيئاً لأهلِ الديرِ كمْ سكروا بها
- وما شربوا منها ولكنَّهمْ همُّوا
- وعنديَ منها نشوة ٌ قبلَ نشأتي
- معي أبداً تبقي وإنْ بلى َ العظمُ
- عليكَ بها صرفاً وإنْ شئتَ مزجها
- فعدلكَ عنْ ظلمِ الحبيبِ هوَ الظُّلمُ
- فدونَكَها في الحانِ، واسْتَجلِها بهِ،
- على نغمِ الألحانِ فهيَ بها غنمُ
- فما سَكَنَتْ والهَمّ، يوماً، بِمَوضِعٍ،
- كذلِكَ لم يَسكُنْ، معَ النّغْمِ، الغَمُّ
- وفي سكرة ٍ منها ولو عمرَ ساعة ٍ
- تَرى الدَّهْرَ عَبداً طائِعاً، ولَكَ الحُكْمُ
- فلا عيشَ في الدُّنيا لمنْ عاشَ صاحياً
- ومنْ لمْ يمتْ سكراً بها فاتهُ الحزمُ
- على نفسهِ فليبكِ منْ ضاعَ عمرهُ
- وليسَ لهُ فيها نصيبٌ ولا سهمُ
المزيد...
العصور الأدبيه