الأدب العربى >> الشعر >> العصر العباسي >> البحتري >> ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها >>
قصائدالبحتري
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها
البحتري
- مِيلُوا إلى الدّارِ مِنْ لَيْلَى نُحَيّيهَا،
- نَعَم، وَنَسألُها عَن بَعضِ أهْليهَا
- يَا دِمْنَةً جاذَبَتْهَا الرّيحُ بَهجَتَها،
- تَبِيتُ تَنْشُرُهَا طَوْراً وَتَطْويها
- لا زِلْتِ في حُلَلٍ للغيثِْ ضَافيَةٍ،
- يُنيرُها البَرْقُ أحْياناً وَيُسديها
- تَرُوحُ بالوَابِلِ الدّاني رَوَائِحُها،
- عَلى رُبُوعِكِ، أوْ تَغْدو غَواديها
- إنّ البَخيلَةَ لمْ تُنْعِمْ لِسَائِلِها،
- يَوْمَ الكَثيبِ وَلَمْ تَسمَعْ لِداعِيهَا
- مَرّتْ تَأوَّدُ في قُرْبٍ وَفي بُعُدٍ،
- فالهَجْرُ يُبْعِدُهَا والدّارُ تُدْنيها
- لَوْلا سَوَادُ عِذَارٍ لَيْسَ يُسلِمُني
- إلى النُّهَى لَعَدَتْ نَفْسِي عَوَاديها
- قد أطرُقُ الغادَةَ الحْسنَاءَ مُقْتَدِراً
- على الشّبابِ، فتُصْبِيني، وأُصْبِيها
- في لَيْلَةٍ لا يَنَالُ الصّبحَ آخِرُهَا،
- عَلِقْتُ بالرّاحِ أُسْقَاهَا وَأسْقِيهَا
- عاطَيْتُها غَضّةَ الأطرَافِ، مُرْهَفَةً،
- شَرِبتُ مِنْ يَدِها خَمراً وَمِن فِيهَا
- يا مَنْ رَأى البِرْكَةَ الحَسْنَاءَ رُؤيَتُها،
- والآنِسَاتِ، إذا لاحَتْ مَغَانِيها
- بحَسْبِهَا أنّها، في فَضْلِ رُتْبَتِها،
- تُعَدُّ وَاحِدَةً والبَحْرُ ثَانِيها
- ما بَالُ دِجْلَةَ كالغَيْرَى تُنَافِسُها
- في الحُسْنِ طَوْراً وأطْوَاراً تُباهِيهَا
- أمَا رَأتْ كالىءَ الإسلامِ يَكْلأُهَا
- مِنْ أنْ تُعَابَ، وَبَاني المَجدِ يَبْنيهَا
- كَأنّ جِنّ سُلَيْمَانَ الذينَ وَلُوا
- إبْداعَهَا، فأدَقّوا في مَعَانِيهَا
- فَلَوْ تَمُرُّ بهَا بَلْقِيسُ عَنْ عَرَضٍ
- قالَتْ هيَ الصّرْحُ تَمثيلاً وَتَشبيهَا
- تَنْحَطُّ فيها وُفُودُ المَاءِ مُعْجِلَةً،
- كالخَيلِ خَارِجَةً من حَبْلِ مُجرِيهَا
- كأنّما الفِضّةُ البَيضاءُ، سَائِلَةً،
- مِنَ السّبائِكِ تَجْرِي في مَجَارِيها
- إذاعَلَتْهَا الصَّبَا أبدَتْ لهَا حُبُكاً
- مثلَ الجَوَاشِنِ مَصْقُولاً حَوَاشِيهَا
- فَرَوْنَقُ الشّمسِ أحْياناً يُضَاحِكُها،
- وَرَيّقُ الغَيْثِ أحْيَاناً يُبَاكِيهَا
- إذا النُّجُومُ تَرَاءَتْ في جَوَانِبِهَا
- لَيْلاً حَسِبْتَ سَمَاءً رُكّبتْ فيهَا
- لا يَبلُغُ السّمَكُ المَحصُورُ غَايَتَهَا
- لِبُعْدِ ما بَيْنَ قاصِيهَا وَدَانِيهَا
- يَعُمْنَ فيهَا بِأوْسَاطٍ مُجَنَّحَةٍ
- كالطّيرِ تَنقَضُّ في جَوٍّ خَوَافيهَا
- لَهُنّ صَحْنٌ رَحِيبٌ في أسَافِلِهَا،
- إذا انحَطَطْنَ، وَبَهْوٌ في أعَاليهَا
- صُورٌ إلى صُورَةِ الدُّلْفِينِ، يُؤنِسُها
- مِنْهُ انْزِوَاءٌ بِعَيْنَيْهِ يُوَازِيهَا
- تَغنَى بَسَاتِينُهَا القُصْوَى بِرُؤيَتِهَا
- عَنِ السّحَائِبِ، مُنْحَلاًّ عَزَاليهَا
- كأنّهَا، حِينَ لَجّتْ في تَدَفّقِهَا،
- يَدُ الخَليفَةِ لَمّا سَالَ وَادِيهَا
- وَزَادَها زُِتْبَةً مِنْ بَعْدِ رُتْبَتِهَا،
- أنّ اسْمَهُ حِيْنَ يُدْعَى من أسامِيهَا
- مَحْفُوفَةٌ بِرِياضٍ، لا تَزَالُ تَرَى
- رِيشَ الطّوَاوِيسِ تَحكِيهِ وَتحكيهَا
- وَدَكّتَينِ كَمِثْلِ الشِّعرَيَينِ غَدَتْ
- إحداهُمَا بإزَا الأخرَى تُسَامِيهَا
- إذا مَسَاعي أمِيرِ المُؤمِنِينَ بَدَتْ
- للوَاصِفِينَ، فَلا وَصْفٌ يُدانِيهَا
- إنّ الخِلاَفَةَ لَمّا اهْتَزّ مِنْبَرُها
- بجَعْفَرٍ، أُعْطِيَتْ أقْصَى أمَانِيهَا
- أبْدَى التّوَاضُعَ لَمّا نَالَها، دَعَةً،
- عَنْهَا، وَنَالَتْهُ، فاختَالَتْ بهِ تِيهَا
- إذا تَجَلّتْ لَهُ الدّنْيَا بِحِلْيَتِهَا،
- رَأتْ مَحَاسِنَهَا الدّنْيَا مَسَاوِيهَا
- يا ابنَ الأباطحِ مِنْ أرْضٍ أبَاطِحُها
- في ذِرْوَةِ المَجْدِ أعلى مِن رَوَابِيهَا
- مَا ضَيّعَ الله في بَدْوٍ وَلاَ حَضَرٍ
- رَعِيّةً، أنتَ بالإحْسَانِ رَاعِيها
- وأُمّةً كَانَ قُبْحُ الجَوْرِ يُسْخِطُهَا
- دَهْراً، فأصْبَحَ حُسنُ العَدلِ يُرْضِيهَا
- بَثَثْتَ فيها عَطَاءً زَادَ في عُدَدِ الـ
- ـعَلْيَا، وَنَوّهْتَ باسْمِ الجُوْدِ تَنْوِيهَا
- ما زِلْتَ بَحْراً لِعَافِينَا، فكَيْفَ وَقَد
- قَابَلْتَنَا وَلَكَ الدّنْيَا بِمَا فِيهَا
- أعْطَاكَهَا الله عَنْ حَقٍّ رَآكَ لَهُ
- أهْلاً، وأنْتَ بحَقّ الله تُعْطِيهَا
المزيد...
العصور الأدبيه