أفكّرُ في النُدْبِ الذي في خدّها الأيمن. تلكَ المرأةُ الغامضةُ لم تُسْقِطْ كُلَّ جلودِها. ليست عاهرةً، كما صوّرَتْ لنا ملابسُها الفاضحةُ أحيانًا و تعدّدُ لهجاتِها. و لا أعتقدُ أنّ المقهى المهدومَ سيعودُ إلى ما كانَ عليهِ: قشُّ السقفِ و الجدران، الحبا
.أُغْمِضُ
.ما عاد ممكنًا أن أستعيدَها أمًّا ليتمي
.حضنُها مغلقٌ. ما من مفتاحٍ للبوّابةِ التي تخذلُ ظلّي كلّما اقتربْت
31
تحتَ مطرٍ من شجرٍ في السماءِ
سأقفُ
جذعً ميّتًا
نحتَتْهُ
-ليصيرَ أنا-
ريحٌ
.في خشبِهِ، نفخَتْ روحَها
سيّاراتٌ قليلةٌ ستعبرني
في ظلّي، سيدخّنُ صغارُ المدرسةِ
كما كنّا نفعلُ في الماضي تمامًا)
تحتَ تلكَ الشجرةِ الكبيرةِ
قُرْبَ البوّابةِ الرئيسيةِ
.(و السورِ الأحمر
سأنصتُ لارتطامِ الطيورِ
على المعطفِ البلاستيكيّ
و الأسفلتِ الموحشِ
حتّى تُفقِدني أحماضُ الملائكةِ وجهي
و يدي
.و الأرضَ التي لم تعرف بعدَ الغيابِ حذائي
32
البابُ المعدنيُّ الأخضرُ
ذو القضبانِ العديدةِ و الحارسِ الأوحد
الذي كنّا ندخلُهُ في الصباحِ ركضًا و الحقائبُ الصغيرةُ تقفزُ على ظهورِنا مثلَ ضفادع تبعتْنا من النهرِ البعيدِ
.البابُ -عتبةُ الجنّةِ في الخروجِ- مغلقٌ على طفولتِنا
.يدي تحثّني على ملامسةِ حديدٍ مبتلّ
.لا أجرؤ
33
على الرصيفِ المقابلِ، شبحُ ذلكَ المقهى. دوريٌّ على كتفِهِ الأيمن يحدّقُ في ظلّي. غبارُ السنواتِ بيننا. مِنْهُ، يولدُ المكانُ ثانيةً، و تحلّقُ عصافيرُهُ بذاكرتي:
البابُ الخشبيُّ الخشنُ، المتأرجحُ الستارةِ بينَ صقيعِ الشارعِ العموميّ و الدخان. الطاولاتُ المستطيلةُ ذاتَ المنافض و الفناجين و الصحون و الأيدي. الكراسي التي قوّسَتْ ظهورَنا. الجدرانُ الصفراءُ كأسنانِنا. النادلةُ الطيّبةُ التي تعرفُنا أكثرَ من أمّهات
مروة، عالية، منى، أنا: أربعةُ حوائط هُدِمَتْ في مثلِ هذا المطر.
.السقفُ موتٌ ملوّنٌ، معلّقٌ في الخواءِ، يظلّلُ رأسَ الشبحِ و دهشةَ الدوريّ على الرصيفِ المقابل
34
تحتَ هذا المطر المتساقط من الأعالي
سأقفُ
جذعًا يقلّ
.وحلاً تتكاثرُ فيه أعقاب السجائر
.لن يفتحَ البابَ الحطّابُ الذي قطّعَ أعضائي
لن تحطّ على كتفي
لن تدركني
في هذا المكانِ القديمِ
.شمسُ الأصدقاء
35
.أرجّحُ الاحتمالاتِ الطيّبة لِكُلِّ السوءِ الذي حدث
المحبَّةُ خدعةٌ
و الحنانُ مشبوهٌ
.لكنّني -رغمَ حدّةِ الألمِ- سأستمرُّ في تصديق ما لا أراهُ