الأدب العربى >> الشعر >> العصر الحديث و المعاصر >> نازك الملائكة >> صلاة الأشباح >>
قصائدنازك الملائكة
- تململت الساعةُ الباردهْ
- على البرج, في الظلمة الخامدهْ
- ومدّتْ يدا من نُحاسْ
- يدًا كالأساطير بوذا يحرّكُها في احتراسْ
- يدَ الرَّجل المنتصبْ
- على ساعة البرج, في صمته السرمديّ
- يحدّقُ في وجْمة المكتئبْ
- وتقذفُ عيناهُ سيلَ الظلامِ الدَّجِيّ
- على القلعة الراقدهْ
- على الميّتين الذينَ عيونُهُمُ لا تموت
- تظَلّ تحدَّقُ, ينطقُ فيها السكوتْ
- وقالتْ يد الرَّجُلِ المنتصِب:
- "صلاةٌ, صلاهْ!"
- **
- ودبّتْ حياهْ
- هناكَ على البُرْج, في الحَرَس المُتْعَبينْ
- فساروا يجرّونَ فوق الثَّرَى في أناهْ
- ظلالَهُمُ الحانيات التي عَقَفَتْها السنينْ
- ظلالَهُمُ في الظلام العميقِ الحزينْ
- وعادتْ يدُ الرجل المنتصِبْ
- تُشير: "صلاةٌ, صلاهْ!"
- فيمتزجُ الصوتُ بالضجّة الداويهْ,
- صدى موكبِ الحَرَسِ المقتربْ
- يدُقّ على كلّ بابٍ ويصرخُ بالنائمينْ
- فيبرُزُ من كلّ بابٍ شَبَحْ
- هزيلٌ شَحِبْ,
- يَجُرّ رَمَادَ السنينْ,
- يكاد الدُّجى ينتحبْ
- على وَجْهِهِ الجُمْجُمِيّ الحزينْ
- **
- وسار هنالكَ موكبُهُمْ في سُكونْ
- يدبّونَ في الطُّرقاتِ الغريبةِ, لا يُدْركونْ
- لماذا يسيرونَ? ماذا عسى أن يكونْ?
- تلوَّتْ حوالَيْهمُ ظُلُماتُ الدروبْ
- أفاعيَ زاحفةً ونُيُوبْ
- وساروا يجرّون أسرارَهُمْ في شُحُوب
- وتهمسُ أصواتهم بنشيدٍ رهيبْ,
- نشيدِ الذينَ عيونُهُمُ لا تموتْ,
- نشيد لذاك الإلهِ العجيبْ
- وأغنيةٌ ليد الرَّجُلِ المنتصبْ
- على البرج كالعنكبوتْ
- يدٌ من نحاسْ
- يحرّكها في احتراسْ
- فترسل صيحَتها في الدياجي
- "صلاةٌ, صلاهْ"
- **
- وفي آخر الموكب الشَّبَحيّ المُخيفْ
- رأى حارس شَبَحَيْن
- يسيرانِ لا يُدْركان متى كان ذاك وأيْن?
- تحُزّ الرّياح ذراعيهما في الظلام الكثيفْ
- وما زال في الشَّبَحينِ بقايا حياهْ
- ولكنّ عينيهما في انطفاءْ
- ولفظُ "صلاة صلاهْ"
- يضِجّ بسَمْعَيْهما في ظلام المساءْ
- **
- "ألستَ ترى"
- "خُذْهما!"
- ثم ساد السكون العميق
- ولم يَبْقَ من شَبَح في الطريق
- **
- وفي المعْبَد البرْهميّ الكبير
- وحيثُ الغموضُ المُثيرْ
- وحيثُ غرابةُ بوذا تلُفّ المكانْ
- يُصلّي الذينَ عيونُهُم لا تموتْ
- ويَرْقُبُهم ذلكَ العنكبوتْ
- على البرج مستغْرَقًا في سكوتْ,
- فيرتفعُ الصوت ضخْمًا, عميق الصدى, كالزمان
- ويرتجفُ الشَّبَحانْ
- **
- "من القلعةِ الرطبةِ الباردهْ"
- "ومن ظُلُمات البيوت"
- "من الشُرَف الماردهْ"
- "من البرجِ, حيثُ يدُ العنبكوتْ"
- "تُشيرُ لنا في سكوتْ"
- "من الطرقات التي َتعْلِك الظُلْمَةَ الصامتهْ"
- "أتيناكَ نسحَب أسرارَنا الباهتهْ"
- "أتيناكَ, نحن عبيدَ الزمانْ"
- "وأسرَاه نحن الذينَ عيونُهُم لا تموتْ"
- "أتينا نَجُرّ الهوانْ"
- "ونسألُكَ الصفْحَ عن هذه الأعين المُذْنبهْ"
- "ترسّبَ في عُمْق أعماقها كلُّ حزْنِ السنينْ"
- "وصوتُ ضمائرِنا المُتعَبَهْ"
- "أجشٌّ رهيبُ الرّنينْ"
- "أتيناكَ يا من يذُرّ السُّهادْ"
- "على أعينِ المُذْنبينْ"
- "على أعينِ الهاربينْ"
- "إلى أمسِهِم ليلوذوا هناك بتلّ رمَادْ"
- "من الغَدِ ذي الأعين الخُضرِ. يا من نراهْ"
- "صباحَ مساءَ يسوقُ الزمانْ"
- "يحدّق, عيناه لا تغفوان"
- "وكفَّاه مَطْويّتانْ"
- "على ألفِ سرٍّ. أتينا نُمرِّغ هذي الجباهْ"
- "على أرض معبدِهِ في خُشُوعْ"
- "نُناديهِ, دونَ دموعْ,"
- "ونصرخ: آهْ!"
- "تعِبْنا فدعْنا ننامْ"
- "فلا نسْمع الصوتَ يَهْتف فينا: "صلاهْ!"
- "إذا دقَّتِ الساعة الثانيهْ,"
- "ولا يطرق الحَرَس الكالحونْ"
- "على كل باب بأيديهم الباليه"
- "وقد أكلتْها القُرونْ"
- "ولم تُبْق منها سوى كومة من عظامْ"
- "تعبنا... فدعنا ننامْ.."
- "ننامُ, وننسى يد الرجل العنكبوتْ"
- "على ساحة البرج. تنثُرُ فوق البيوتْ"
- "تعاويذَ لعنتها الحاقدهْ"
- "حنانك بوذا, على الأعينِ الساهدهْ"
- "ودعها أخيرًا تموتْ"
- **
- وفي المعبد البرهمي الكبيرْ
- تحرّكَ بوذا المثيرْ
- ومدّ ذراعيه للشبحَيْنْ
- يُبارك رأسيْهما المُتْعَبيْنْ
- ويصرخُ بالحَرَس الأشقياءْ
- وبالرَّجُلِ المنتصبْ
- على البرْج في كبرياءْ,
- "أعيدوهما!"
- ثم لفَّ السكونُ المكانْ
- ولم يبقَ إلا المساءْ,
- وبوذا, ووجه الزمانْ
المزيد...
العصور الأدبيه