الأدب العربى >> الشعر >> العصر الحديث و المعاصر >> محمد القيسي >> جزء من حديث ذات ليلة باردة >>
قصائدمحمد القيسي
جزء من حديث ذات ليلة باردة
محمد القيسي
- وأنا مثل مغنّ يحمل قيثارا
- يمشي في الحلم ويبكي , ويغنّي
- يهبط سقف الليل
- أفتتح كتاب الوحشة , أرسم فوق الجدران
- أقمارا , أحرقها
- وتمرّ فلول الأيام المنهزمة
- مثل قطار واهن
- يعبر بي مدن الذكرى
- أرتعش وتسقط فوق سريري نجمة
- أبحث في قاموس الأسرار
- عن معنى المطر ,
- وحزن الآنية المكسورة
- لكنّ الكلمة
- تزرعني ثانية في منطقة اللغز
- ما بين الواقع والأسطورة
- قال أبو حسن اللدّاوي :
- ( و أبو حسن اللدّاوي هذا , يعمل حمّذذالا ,
- أحيانا ماسح أحذية , عامل مقهى
- أحيانا يتجوّل بين الأحياء
- يبيع الترمس للأولاد , ويملك صندوق عجب )
- فِي العاشر من أيلول الماضي
- أعولت الدنيا ,
- وانشقّ جدار البيت
- عن شيخ كان جريحا
- ووقور الحزن , مهيب الصمت
- بادرني مثل الدهشة , قال :
- * أنا عزّ الدين القسّام
- هل تأذن لي ,
- أن أقضي الليلة في بيتك ؟
- - عزّ الدين القسّام !
- لا أعرف أحدا يحمل هذا الإسم
- * رجل من أرض الشام
- لا يملك عائلة ,
- لا يملك بيتا
- يتجوّل في أحياء الفقراء
- وكثيرا ما شاهده بعض الفلاحين
- يعبر بين الأشجار
- يبحث عن حبّة تين يابسة ,
- عن جرعة ماء
- كان يرى بعض النسوة ,
- يحملن جرارا ,
- ويطفن على الآبار
- فيمرّ سريعا ,
- ويحاذر لقيا الأطفال
- والنظر إليهم
- كي لا يبكي
- ( وتوقف مهموما مثل حصان مجهد
- ليتابع )
- أعرف أنّي مجهول منسي
- مجهول المولد , مجهول الموت
- ( ولمحت بعينيه بريقا ,
- قلت ) :
- - أتبكي يا شيخ ؟
- * لا أملك عينين لأبكي
- فأنا جئت أزور الوطن لأنظر أحبائي
- وأعانقهم
- لا أرثيهم
- (قال أبو حسن اللدّاوي :
- واحترت كثيرا في هيئته المأساوية ,
- في بقع الدم المتجّمدة على الكتفين ,
- وفوق الصدر
- في هذي الأعشاب النامية ,
- على جبهته ,
- والطين العالق في قدميه
- قلت له ) :
- ما الأمر?
- ( أمعن بعض الوقت ,
- وعدّل فوق الرأس عمامته البيضاء
- فانتحبت في كفّذذيه عصافير كثيره
- خيّل لي أنّ العزلة
- تسكنه منذ قرون
- أنّ الوحشة بيته
- وكما لو أنّ بلادا واسعة ,
- تحتلّ مساحة قلبه
- راح يغنّي موّالا شعبيّا
- عن شمس تغرب
- عن وجه يشحب
- عن سفن تشرع نحو المنفى
- عن عشق لم أسمع مثله
- يا الله
- يا الله !!
- بعد قليل ردّد بأسى مفجوع :
- * " دار جفتنا يحقّ لنا نعاتبها
- ونجيب فووس النيا ونهدم عواتبها "
- ( أسلم عنق الموّال لمقصلة الصمت ,
- ولملم نفسه )
- - هل تعمل شيئا يا شيخ ؟
- * كنت قديما
- - أين ؟
- * في الشارع والمسجد والبريّة
- عملي كان
- محصورا ما بين الفقراء
- يأتون إليّ صباح مساء
- فأؤجّج فيهم نار الحكمة ,
- والموعظة وحب الأرض
- أطعمهم زاد القلب
- وأقرّبهم من ملكوت الرب
- أنت حزين يا شيخ
- ما تحمل في قلبك ؟
- منشورات سرية
- ماذا ؟
- أحمل تذكارات الأمس ,
- مواويل الجبل وصورا للأطفال الباكين
- أحمل وطنا يتوّجع
- فأنا منذ قتلت
- هاجرت إلى مملكة الأعشاب ,
- سكنت قلوب الشجر ,
- وأعراق الزعتر , قلت :
- يأتي من يكسر هذا القيد
- يأتي من يشعل أعراس الأرض ,
- ويحترم الإنسان
- لكن لم يأتوا حتى الآن
- فمتى يأتون ,
- متى يأتون !
- يا شيخي الطيب
- أحيانا يفلت منّي المعنى
- لكّني أوخذ بالصوت
- والحزن الأخضر في كلماتك
- كيف تقول قتلت , وها أنت أمامي ؟
- * الموت رفيقي
- فلذا يسمح لي أحيانا ,
- أن أتجوّل في مملكتي
- وأطوف على الأحياء
- - وجروحك ؟
- * يجمل أن تبقى
- حتى يعرفني الناس
- حتى يستيقظ فيهم شيء ما
- حتى لا يقعوا ثانية ,
- في هاوية الأخطاء
- ما تفعل لو صادفت الحرّاس ؟
- الشرطة والعسكر والحرّاس
- هم بعض الأعداء ,
- ومن مصلحة الدولة
- أن تبقى أوراقي مطوّيه
- ( أطفأت الوابور
- وأنا لا أفهم شيئا
- وسكبت له كباية شاي ساخن
- قلت : تفضّل
- في الخارح كان الليل وحيدا ,
- إلا من صرصرة الريح ,
- ورجع خطى مجهولة )
- " جسمي تقّطع وجرحي طال يا مولاي
- وأقلام صبري براها الهمّ يا مولاي
- نهر الفرات من دمعتي فار
- ودّور طاحون وخشب
- ولا بارك الله في قوم يعبدون الخشب
- أنت تنين ياللي من حديد وخشب
- اشحال أنا من لحم ودما صابر على بلواي """"
- ( التمعت عينا الشيخ
- وارتفعت يده تمسح عن وجهه
- شيئا ما
- قلت ) :
- هذا حمدان الناطور
- وضعت مصلحة البلدية يدها ,
- فوق مساحات من أرض القرية
- واشتقّت من بيّارته اسفلتا ,
- جعلت منها منتزها للسيّاح
- قاوم حمدان المشروع بكل قواه ,
- ولكنّ المقدور وقع
- حمدان جثا فوق الأرض وقبّلها ,
- رفض التعويض .. بكى
- بين يديّ بيّارته ,
- وهي تغادر أشجارا
- وترابا
- وسياجا
- وحزنّا معه لكن حمدان
- لم ينس , فمن ذاك اليوم
- وهو يدور على الأرصفة بلا وعي ,
- يذرع طرق القرية ,
- يزرع قلب الليل موّاويلا حارقة ,
- ويقول بأنّ له عاشقة ,
- بين الصبّار ,
- يطارحها الدمع إذا التقيا
- والضحكة أحيانا ,
- ويراها في الموّال كما يزعم ..
- * أعرف حمدان الناطور ووقع الموّال
- فكثيرا ما صادفني في الليل ,
- ورافقني التجوال
- وشربنا الشاي معا بالنّعناع
- ووقفنا فوق الكرمل ,
- ننتظر القادم بسلال الأفراح
- وأنا أعرف حزن الشجر المقهور ,
- وأنّته الصامتة , وصفرة أوراقه
- إذ تهوى في وجه الريح ,
- وأعرف زهو الموت وكاميرات السيّاح
- أعرف حمدان الطفل ,
- الولد اليافع , والشاب
- الطعنة والبئر , وما فعل الأخوان
- أعرف هذا الزمن الخوّان
- والمدن الطالعة من الصحراء بأزياء عصريّة
- والبدو وحرّاس القصر ,
- وقاتل حمدان الناطور ,
- ومن شربوا الرّاح
- عصر اشتعل الحرش ,
- وصارت خاصرة الجبل وسادة
- والريح كفن
- ( حين نهضت لإحضار فراش ,
- كي يرتاح ..
- أوقفني عند العتبة صاح :
- * دهرا نمت , وحين استيقظت ,
- وجدت موانيء , ومسالك تنتظر ,
- وقال المذياع : انتظروا ..
- وتعثّرت بخوذة جنديّ هارب ,
- وبآخر ملقى ..
- قلت : الطوفان , السبيّ ,
- وقال المذياع :
- لا تهنو ..
- لكنّ القلب الملتاع
- أسقمه ما أسقمه
- للحزن طقوس , والأوجاع
- لا ترفق بالقلب وترحمه
- عاوده النوم ..
- و ( يا دار ما دخلك شرّ )
- - لكأنك تعنيني يا شيخ , وتحكي
- عمّا كان بنفسي ,
- حين الأقدار أقلّتني من بيتي ,
- في اللدّ إلى قبية حتى الجلزون
- والله عليم ما قاسيت من الجوع ,
- ومن ذلّ السير ..
- ** لا أعني أحدا
- غرناطة , يافا , اربد , مكّة
- وارميا العربيّ والبكاء
- لا في الغزو ولا في التهليل
- يا مال الشام أضاعوك
- كمال الأيتام أضاعوني
- طال مطال البين ,
- وما أحد قال
- تعال
- وشال الحمل ,
- ولا تركوني
- ناديت محبّي , همو خدعوني حزني كالبحر عظيم
- لا حنطة للأطفال المغشّي عليهم
- عطشان ,
- صبايا الحيّ ملأن جرار الماء وغادرن ,
- فمن يرويني
- ناديت محبّي , همو خدعوني
- هوّن يا شيخ عليك
- الدنيا ذاهبة والباقي وجه الله
- والعمل الصالح
- ..................
- * ....................
- ( وانسلّ خفيفا كالطيف ,
- توقّف عند الباب
- وتهدّل تعبا , كالغصن الملآن
- فانخلع القلب من الرهبة والحزن
- واستودعني اليقظة ,
- والحيرة والليل وغاب )
- ...................
- * جسمي تقطّع وجرحي طال يا مولاي
- وأقلام صبري براها الهمّ يا مولاي
- نهر الفرا............................
المزيد...
العصور الأدبيه