ما من موجة إلا وهيأوا لراحتها رمل الأقاصي وغرف السفر. ما من سفر إلا وانتخب وحشا يهذي. يهيمون مثل ماء مجنون. كلما انتبذوا أقداح السهرة، فزعت أنثاهم الفاتنة بذخيرتها.
يضعون أدواتهم المتعبة عند سفح الغيم، يؤثثون الكتب بأسمال منسولة من سماء مسقوفة بالصلاة،
ينشدون مزاميرهم، وينفرون من جهة تخلعهم، رافعين شظايا الأقفال في مائدة الطريق تمجيدا.
ثمة حديد يحرس المداخل،
ثمة شعب من قلامات البركان .
قيل إنه بوصلة تضلل النساك وسدنة الهيكل.
يتكلمون، فتنهض معهم اللغة،
وتختجل الكلمات العذراء، مثل طيور ضائعة في العماء.
26
منذ أكثر المخلوقات جمالا وجهامة ومهاجمة، منذ الكرسي والمائدة، منذ الماء في مكانه، منذ فبراير الثلجي ،
منذ ( آب ) الأخير، منذ الاستجواب المؤجل، منذ بنات آوى، منذ الأصدقاء، منذ أقاصي امرأة في انتظارها،
منذ باب المغامرة، منذ شهقة النهد والنمر ونعاس الآلهة،
منذ شظايا القدم المذعورة، منذ النوم والموت والكوابيس،
منذ القلب والقيامة، منذ شكل الكلام، منذ خدم العبيد،
منذ الجنس في الخلايا، منذ الحديد والذهب، منذ غيظ الهذيان منذ الوحيد
وحده.
27
كيف يعجز شخص، يزعم الكتابة، عن الكلام، كنت وحدي، وأنت تمعنين في هجومات غيابك.
وما إن أطلق ريش تعبي عليك حتى تمنحي الروح فسحة التعب.
كنت أكثر من وحيد، وأقل من الهذيان.
28
لا تملك عبيد العرب،
و لا تخدم ملوكهم .
29
قيل لهم :
هنا تستريحون من السعي،
فألقوا بأكياسهم المتهرئة لفرط ما شرشتها التضاريس. أحفاد وضعوا كواهلهم المتعبة على أصول الأشجار، وراحوا يرسمون هندسة التل، يمنحونه جيوبا سرية مشمولة بالكبريت.
يقتحمون الطريق الملكية، فنسمع دبيب الوحش في ز فيرنا. فيما نرقب صافنات عوجتها الانتظارات .
40
الجسد / حديد طري تستفرد به دماثة الغابة،
الجسد / حنين يأخذ شكل الحروف،
الجسد / صمت يتلاشى في زئبق الكلام،
الجسد / حالة الذهب في مديح النيران،
الجسد / حيلة الطين لئلا ينجو من الماء،
الجسد / ذبيحة الجسد.
41
بلادك أيها المجنون،
ساحة حربك الأخرى،
خطيئتك الجميلة،
فانتخب أعداءك الفرسان
قاتل و انتظر و اهدأ،
فهذي وردة للكأس سوف تقول للأطفال
عن جسد تماثل و اصطفى موتا
و أبكى غفلة النيران.
42
هنيئا للذي يلهو به يأس
و يحرسه رماد غادر
و يقول للموتى : صباح الليل.
يهذي،
ساعة الهذيان تفضح موت موتانا
و تمنح كل مرآة خيانتها.
صباح الليل للموتى..
إذا ماتوا.
43
ترون كما يرى الأعمى،
كما لا يخطئ الفقهاء في الفتوى،
كما تغفو نصال غير عابئة بموت النص.
44
يخافني الناس لبشاعة الظاهر،
و أخاف الناس لبشاعة الباطن.
45
أيها الغريب
هل في أصابعك شهوة الباب الموصد ؟
هذا نهارك المشحون بالعمل و المكتشفات.
أيها الغريب
ها أنت الواحد القليل
تتكاثر كلما دلفت في رواق يأخذك إلى بهو الجسد،
حيث الذخائر يخبئها لك شخص
لا تعرفه لا يعرفك،
و بينكما ألف عرس و ألف جرس،
و عضلة مفتولة،
حريتك الأخيرة في النهار الأخير .
46
تدفقوا من صخرة تشتعل، لتراكم الأرض بقفطاناتكم القرمزية وتلمس أطرافكم، تحزمون المدن بشكيمة الحجر، تقودون الشجر والدواجن والفراشات والنحل والمناديل مبللة بالحزن، تحرسون الظلال الهاربة والأحلام المذعورة في نوم الأطفال تقودون ساحرات الوقت بقمصان هلهلتها
غزاة أليفون لأوهامنا، نمشي في خديعة سافرة جرجر الضباع
أجسادنا نحو الجب في وحشة الصحراء وسفن التيه،
من سيسعف صخرة النار.
قفطاناتكم القرمزية، رايات الوقت، تنقذون الماء من السكينة، وتكرعون نبيذ الهجوم لتفزع المدن المستسلمة بنواقيس أفراسكم الرشيقة، مدن تجرعت عارها هزيمة هزيمة.
تذهب عن القتال متدرعة بالتعاويذ ونصوص السقيفة،
مذعنة لرغبة الموت..
كأنها تموت.
47
تصد عنا الهوام منسولة من الكبح تتراكم مثل تمائم الوهم، نظنها الأوسمة، فإذا هي وشم أعضائنا الذاهلة.
سقيفة تتفاقم حول الأرض بعرس باذخ، نصدق سرادق الفضيحة منصوبة فوق الضحايا.
تنهض كل ليل من الكفن والمراقد الأبدية، تقض شراشف أحلامنا واستسلام رؤانا جديرون ببشارة الشخص وحنين القرمز وشبق الكائنات.
تخرجون على خريطة الأرض، تخبطون مدنا أسلمت قيادها لأكثر الطغاة أناقة وتيها ومباهاة.
تصيرون بريد الفزع لأكثر الشعوب اطمئنانا لسجنها.
48
تسألنا الأرض عن عرس وعدنا به، فنتلعثم ونختلج.
أفواهنا مملوءة بالتراب، لا نعرف هل كنا نقبل الأرض كي تصفح عن سهونا وغفلة قلوبنا،أم كنا نكبت صرخات الذعر لفرط الحبسة.
ذهبنا إلى الساحة بوهم الأعداء، لنجد الأحباء في انتظارنا بالنصال المسنونة، لنسقط معا في احتضار طويل.
كنا ذريعتكم لارتداء أكثر القفطانات خجلا، نحن أحبابكم الخاطئون، نسمع نشيجكم ينبعث في صخرة مشتعلة،
مثل حمم تصعدون من الأقاصي وتقذفون بقناديلكم نيازك تبغت الغافل والنائم والمأخوذ والشريد والقاطن والمسافر. تبغت العبيد وهم يرفلون في حرياتهم المكبوتة.
صمت يخلع الأكباد من نواحها، ويفتن الأرض بأزهار القرمز الباهرة، صمت ينهر وهدة المهد.
49
ليل..
كما لو أنه الليل كله.
50
كان عليه أن يؤثث دروبه بأشباح تتميز برهافة الريح،
حوذي يغتاظ لضراوة الغبار المثار حول مواقع خيله.
ما كان له أن يغفل عن رعشة الغريب. غريب سهر الليل كله يملأ الأفق أحلاما ومناديل.
بينه و بين الطريق بوصلة ثملة،
و أسرى مجللون بالبياض.
51
يا حوذينا الجميل،
إرفق بنا وصدقنا و لا تذهب عنا أكثر مما فعلت.
يا حوذينا الأرعن الجميل،
ليس ثمة سفيرة في انتظار خيولك غير هذه القلوب المرتعشة، تأكل منها الغربة و وحشة الطريق.
يا حوذينا ذو الاسم الباهر،
إرخ لخيولك قليلا، واصغ لزفيرنا المكتوم،
واغفر لنا كل ذلك الحب.
52
تقف النساء في الساحل، غارسات أطرافهن في الرمل، يرقبن معادن تطفو عارية، غير عابئة بنسلها المهدور في الرمل. معادن ارتعشت منها الأوداج والفرائص في دكنة الليل،
دافقة ماءها، ليطلع النسل مثل السنابل.
نساء مأخوذات بالبحر وهو يأخذ الرجال.
53
واحدا واحدا
كل هذي الوجوه الصغيرة أعرفها،
واحدا واحدا
و الطيور الحبيسة مشحونة بالمرايا و موعودة بالصور،
تأمل،
ستلمس غبطة أغصانها وهي تحنو على النهر مكتظة بالشجن، تأمل،
لأكتافها خصلة سوف تبني عليها العناصر أحلامها،
و إن سال منها الدم المستثار،
تأمل،
ستلمح فيها احتمالا و مستقبلا للنهار،
واحدا واحدا
كلما هيأ القتل و القيد أسطورة،
فز في شمعدان الطفولة وقت الصلاة.
انتظر أيها الفارس الرخو،
هذي الوجوه الجميلة تعرفها
فانتظر.
54
يشهد الفضاء الشاسع لحظة امتثال،
تفسح للهيكل الهائل حدودا بعيدة، لكي يخرج من هيأة
و يدخل في هيأة،
لترى الأعالي كيف يصير اللحم والعظم و الجلد والحراشف والريش حديدا مطاطا،
كأن الموقد يصهر الأشياء كما يحلو له.
فتتفلت نحو رحم لا يتمخض و لا يجهض و لا يلد،
يرتج لوقع جنازير المعدن الرديء،
مكتنزا ببشر لا يسعهم الوقت للكر،
يدفعهم المكان للفر.
55
كل هذا الهزيع الأخير من الوقت يدعى جنوبا و مستقبلا،
كله الآن يمتد مثل التراتيل
من مات قبل الطقوس له جنة،
و من لم يمت لا يموت.
في مهب النهارات يكبو على التل،
هذا
هو
الطين
تحت
العذاب.
انتظر أيها الفارس الرخو،
هدهد لأبنائك المترفين بأشلائهم،
56
علهم يصبرون قليلا على الموت.
قل لأحجارهم :
إن هذا الهزيع الأخير من الوقت،
هذي الجهات الكثيرة محصورة في هزيع من الموت،
لو يصبرون قليلا عليه
... قليلا عليه.
57
كلما داعب الأصدقاء جراحي،
تماثلت للموت.
58
طاردني حرس الخالق منذ الكتاب الأول، منذ أروقة المكتبات المعتمة، منذ الغرف الموصدة،منذ أكثر المخلوقات جمالا وجهامة ومهاجمة، منذ الكرسي والمائدة،منذ الماء في مكانه،
منذ فبراير الثلجي،
منذ " آب " الأخير،
منذ الاستجواب المؤجل، منذ بنات آوى، منذ الأصدقاء،
منذ أقاصي امرأة في انتظارها، منذ باب المغامرة، منذ شهقة النهد والنمر ونعاس الآلهة، منذ شظايا القدم المذعورة، منذ النوم والموت والكوابيس، منذ القلب والقيامة، منذ شكل الكلام، منذ خدم العبيد، منذ الجنس في الخلايا، منذ الحديد والذهب، منذ غيظ الهذيان، منذ
طاردني الخالق والمخلوق، حتى وصلت منهك العضل،
فائض الجزع، واضعا جسدي في شرفة الشنق، مكتشفا أنني لم أذهب طوال هذا الليل أبعد من حياة مليئة باللبونات.
59
الخاسر..
لا يخسر شيئا .
60
ها أنت، مبذول لعبور الصواري، والقبر حصنك الأخير.
لست إلا فزاعة المدينة، ترى في الرمل المذعور جيوشا
تقودها نحو البحر. لتفتح الساحة أمام تجار يتماثلون
و بحارة ينسون حرية الأعماق،
فيصابون بخناق الماء.
مثلك لا يقف هكذا مذهولا مفتوح الجراح، شرفاته مباحة للغربان و أقداحه مسكونة بعناكب الكهوف.
مثلك يصلب في الصارية.
61
ذاهب لترجمة الليل.
62
ذاهب في وطأة الجب و عذاب القميص و جنة الذئب،
ما كان لك أن تبذل جسدك لمهب الحب الصارم،
مثلما يضع الفارس شغافه في شفرة السيف..
ويحلم بالنجاة.
63
كنت القدم العارية كنت شظية القلب الضاري كنت مسمار الباب مارقا زهرة الصدر كنت أسئلة الكهرباء كنت نحيب الأبجدية كنت ميراث الكتب كنت شظف الخبز في العائلة كنت الحديد فاضح الليل كنت عاج العفة تقية التجديف كنت الشهوة الخفيفة كنت التميمة وصمت الناس كنت الدم
64
آن لكم أن تصعدوا بأبصاركم
أكثر فأكثر،
سهوب
أطلع منها في قطيع من الوعول
معلنا أنها انتقاماتي.
65
حوله عشرون غولا يتطاير من أطرافهم شرر عظيم
وبين أكتافهم تتهدل أسمال مضفورة
لتبدو رؤوسهم في أفاع مسدولة.
يفرك عينيه ويكرع كأسه الأخيرة
كأنها الأولى
فيكبو على وجهه في رغام رطب ينضح بسائل لزج
جسده يتعفر وينتفض ويشهق
ويضطرب في قهقهة العشرين غولا
تحيط به...
يهم أن... يتذكر...
يتذكر ... و ينسى.
66
في نزهة الضباع
ليل يتعثر بقفطانه المتخبخب ويكبو عند المنعطفات.
سمعت المرأة صرخة ولدها الغريب
كأنها تلده الآن
رأته، في ما ترى الثاكل،
أعضاؤه تمر تحت آلة ضارية شلوا شلوا
وهو يمزق قمطه بصريخ يفزع البهو والأروقة.
تزيح خشب النافذة، حجر الطريق، عقابيل الغابة،
تزيح صخرة القبر
لنرى امرأة مصابة بالفقد
67
أيها الموت..
يا حبيبي.
68
أنا، الوحيد الواقف في هاوية، أكتشف الآن بأني سهرت العمر أنسجها لخطواتي نأمة نأمة، زاعما أنني القوي المقاوم القادر على المجابهات. أنا المخلوق الأضعف بلا يقين ولا حجة كابرت مثل جبل يجهش في حضرة الغيم. كائن يقف فضيحة في قلب الكاهن. شهوة تفتح النهاية وتأ
ضبع يولغ دماء القتلى بأشفار مرتعشة شبقا وأنيابه تكزّ على عظم الجثة، كما يخلع نبي قميصه المهتوك.
جدير بكل ما تقدرون عليه من الفتك،
ولتكن حرياتكم راية الإنتقامات.
72
أنا، هدف القناصين، طاشت روحي بين أياديكم، تعفون ولا يليق بكم. أنتم أعذار القتلى، خطاياكم أكثر من براءة الطفل. ليس لكم أن تبالغوا بيد ترتجف وهي في مقبض المعول المثلوم بصدأ عتيق كنبيذ فاض بي ولم يحتمل الصبر في نزيف يذبح الخلايا.
يوشك الليل أن يصير كفنا يرأف بالمتلعثم أمام الحب، المبتهج بنحيب المحتضرين، المتأرجف برهاب النصل من جهات جمة.
آن السفر
آن السفر،
ولا رجوع.
لم يعد في الفضاء هواء لكي تأخذ الجثة شهقة.
ولتكن منكن الوصيفات لهودج الليل.
ولتكن منكن شديدات البأس،
ليأتي الحداد من الأقاصي.
ولتكن منكن النائحات يدفعن،بفرح دفين، جثمانا يذهب.
73
يعوي في السهوب :
سأذهب، لكي يعرفوا أنني جئت.
***
انتحاب
كنا نغني حول غربتنا الوحيدة
كالعذارى في انتحاب الليل.
كنا نترك النسيان يأخذنا على مهل
لئلا نفقد السلوى.. ونذكر..
أن عشاقا لنا كانوا هنا
واستأثروا بالفقد
سابونا على أوهامنا و تقلصوا عنا
و أهدونا إلى أسلافنا،
لو أنهم
لو أن عشاقا على ميزانهم مالوا قليلا
أو تمادوا في تغزلهم بعذراواتنا، أو بالغوا
لو أنهم جاءوا قبيل الماء،
أفشينا لهم أسرارنا،
كنا توضئنا لهم بالنرجس الناري
لو جاءت رسائلهم لنا كنا قرأنا سورة الرمان
سورنا بلادا بالتراتيل،
إنتخبنا بهجة أخرى،
وكنا زينة في الليل، كي لا تخطئ النيران
كي تغوي العذارى شهوة الأحلام
توقظ فتنة من نومها.
لو أنهم ماتوا قليلا قبلنا..
كنا تمهلنا قبيل الموت
أو كنا قتلنا بعضنا،
كنا مكثنا في خطايانا
و أجلنا مكاشفة العدو لعله يعفو
و يذبحنا برفق
علنا نخفي عن الجيران شهقتنا
نكابر،
ننتحي في ركن خارطة و ننسى هجرة
و نغض طرفا عن منافينا و ننكر جرحنا
كنا تشنجنا على أكبادنا
كنا كتمنا،
لم نكابد غبطة العشاق
لم نفتح كتابا فاتنا في الحب
أو كنا قنعنا بالخسارة كلها
لو أنهم ..... *
مديح اليأس
لم تكن أخطاؤنا أغلى من الأبناء
كابرنا لكي نخفي هوانا عن معذبنا
مدحنا يأسنا، متنا
وسمينا اختلاج الروح تفسيرا،
تقمصنا الهواء.
لم تكن أخطاؤنا أغلى
تماهينا، شحذنا نعشنا،
وسمينا هوانا كاسر النسيان
أسرفنا و أرخينا مراثينا
لئلا يعرف القتلى طريق الموت
..ـ ــئلا تشفق الرؤيا على أخطائنا.
لم ينتخبنا سيد، لا نغفر الأسماء،
لم نحضر دروس النحو،
لم نعرف مكانا آمنا للحب. *
جمرة الفقدان
ماذا سيبقى عندما تنهال جمرتنا الخفية في هواء الليل