قصائدبدر شاكر السياب



المومس العمياء
بدر شاكر السياب



  • الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه

  • والعابرون، إلى القرارة... مثل أغنية حزينه.

  • وتفتحت كأزاهر الدفلي، مصابيح الطريق،

  • كعيون ""ميدوزا""، تحجر كل قلب الضغينه،

  • وكأنها نذر تبشر أهل ""بابل"" بالحريق

  • من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف

  • من أي وجر للذئاب؟

  • من أي عش في المقابر دف أسفع كالغراب؟

  • ""قابيل"" أخف دم الجريمة بالأزاهر والشفوف

  • وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء

  • ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء

  • عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة،

  • والليل زاد لها عماها.

  • والعابرون:

  • الأضلع المتقوّسات على المخاوف والظنون،

  • والأعين التعبى تفتش عن خيال في سواها

  • وتعد آنية تلألأ في حوانيت الخمور:

  • موتى تخاف من النشور

  • قالوا سنهرب، ثم لاذوا بالقبور من القبور!

  • أحفاد ""أوديب"" الضرير ووارثوه المبصورن.

  • جوكست أرملة كأمس، وباب ""طيبة"" ما يزال

  • يلقي ""أبو الهول"" الرهيب عليه، من رعب ظلال

  • والموت يلهث في سؤال

  • باق كما كان السؤال، ومات معناه القديم

  • من طول ما اهترأ الجواب على الشفاه.

  • وما الجواب؟

  • ""أنا"" قال بعض العابرين...

  • وانسلّت الأضواء من باب تثاءب كالجحيم

  • يبحثن في النيران عن قطرات ماء... عن رشاش.

  • لا تنقلن خطاك فالمبغى ""علائي"" الأديم:

  • أبناؤك الصرعى تراب تحت نعلك مستباح،

  • يتضاحكون ويعولون.

  • أو يهمسون بما جناه أب يبرّؤه الصباح

  • مما جناه، ويتبعون صدى خطاك إلى السكون

  • الحارس المكدود يعبر متعبات،

  • النون في أحداقهن يرف كالطير السجين،

  • وعلى الشفاه أو الجبين

  • تترنح البسمات والأصباغ ثكلى، باكيات،

  • متعثرات بالعيون وبالخطى والقهقهات،

  • أوصال جندي قتيل كللوها بالزهور،

  • وكأنها درج إلى الشهوات، تزحمه الثغور

  • حتى تهدم أو يكاد. سوى بقايا من صخور.

  • جيف تستّر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها

  • أن الطفولة فجّرتها ذات يوم بالضياء

  • كالجدول الثرثار - أو أن الصباح رأى خطاها

  • في غير هذا الغار تضحك للنسائم والسماء،

  • ويكاد ينكر أن شقا لاح من خلل الطلاء

  • قد كان - حتى قبل أعوام من الدم والخطيئة -

  • ثغرا يكركر، أو يثرثر بالأقاصيص البريئه

  • لأب يعود بما استطاع من الهدايا في المساء:

  • لأب يقبل وجه طفلته الندي أو الجبين

  • أو ساعدين كفرختين من الحمائم في النقاء.

  • ما كان يعلم أن ألف فم كبئر دون ماء

  • ستمص من ذاك المحيا كل ماء للحياء

  • حتى يجف على العظام - وأن عارا كالوباء

  • يصم الجباه فليس تغسل منه إلا بالدماء

  • سيحل من ذاك الجبين به ويلحق بالبنين -

  • والساعدين الأبيضين، كما تنور في السهول

  • تفاحة عذراء، سوف يطوقان مع السنين

  • كالحيتين، خصور آلاف الرجال المتعبين

  • الخارجين خروج آدم، من نعيم في الحقول

  • تفاحة الدم والرغيف وجرعتان من الكحول

  • والحية الرقطاء ظل من سياط الظالمين

  • أتريد من هذا الحطام الآدمي المستباح

  • دفء الربيع وفرحة الحمل الغرير مع الصباح

  • ودواء ما تلقاه من سأم وذل واكتداح

  • المال، شيطان المدينه

  • إبر تسل بها خيوط من وشائع في الحنايا

  • وتظل تنسج، بينهن وبين حشد العابرين،

  • شيئا كبيت العنكبوت يخضه الحقد الدفين:

  • حقد سيعصف بالرجال

  • والأخريات، النائمات هناك في كنف الرجال

  • والساهرات على المهود وفي بيوت الأقربين

  • حول الصلاء بلا اطراح للثياب ولا اغتسال

  • في الزمهرير، ودون عد لليالى والسنين!

  • ويمر عملاق يبيع الطير، معطفه الطويل

  • حيران تصطفق الرياح بجانبيه، وقبضتاه

  • تتراوحان: فللرداء يد وللعبء الثقيل

  • يد، وأعناق الطيور مرنحات من خطاه

  • تدمي كأثداء العجائز يوم قطعها الغزاه

  • خطواته العجلي، وصرخته الطويلة ""يا طيور

  • هذي الطيور، فمن يقول تعال...""

  • أفزعها صداه

  • وتحسسته كأن باصرة تهم ولا تدور

  • في الراحتين وفي الأنامل وهي تعثر بالطيور،

  • وتوسلته: ""فدى لعينك - خلني. بيدي أراها"".

  • ويكاد يهتك ما يغلف ناظريها من عماها

  • قلب تحرق في المحاجر واشرأب يريد نور!

  • وتمس أجنحة مرقطة فتنشرها يداها،

  • وتظل تذكر - وهي تمسحهن - أجنحة سواها

  • كانت تراها وهي تخفق... ملء عينيها تراها:

  • سرب من البط المهاجر، يستحث إلى الجنوب

  • أعناقه الجذلى... تكاد تزيد من صمت الغروب

  • صيحاته المتقطعات، وتضمحل على السهوب

  • بين الضباب، ويهمس البريد بالرجع الكئيب

  • ويرج وشوشة السكون

  • طلق... فيصمت كل شيء... ثم يلغط في جنون.

  • هي بطة فلم انتفضت؟ وما عساها أن تكون؟

  • ولعل صائدها أبوك، فإن يكن فستشبعون.

  • وتخف راكضة حيال النهر كي تلقى أباها:

  • هو خلف ذاك التل يحصد. سوف يغضب إن رآها.

  • مر النهار ولم تعنه... وليس من عون سواها

  • وتظل ترقى التل وهي تكاد تكفر من أساها.

  • يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السهاد؟

  • لا تمهليها فالعذاب بأن تمري في اتئاد.

  • قصي عليها كيف مات وقد تضرّج بالدماء

  • هو والسنابل والمساء -

  • وعيون فلاحين ترتجف المذلّة في كواها

  • والغمغمات: ""رآه يسرق""... ""واختلاجات الشفاه

  • يخزين ميتها، فتصرخ يا إلهي، يا إلهي

  • لو أن غير ""الشيخ""، وانكفأت تشد على القتيل

  • شفتين تنتقمان منه أسى وحبا والتياعا

  • وكأن وسوسة السنابل والجداول والنخيل

  • أصداء موتى يهمسون رآه يسرق في الحقول

  • حيث البيادر تفصد الموتى فتزداد اتساعا

  • وتحس بالدم وهو ينزف من مكان في عماها

  • كالماء من خشب السفينة، والصديد من القبور،

  • وبأدمع من مقلتيها كالنمال على الصخور

  • أو مثل حبات الرمال مبعثرات في عماها

  • يهوين منه إلى قرارة قلبها آها فآها.

  • ومن الملوم وتلك أقدار كتبن على الجبين؟

  • حتم عليها أن تعيش بعرضها، وعلى سواها

  • من هؤلاء البائسات وشاء رب العالمين

  • ألا يكون سوى أبيها - بين آلاف - أباها

  • وقضى عليه بأن يجوع

  • والقمح ينضج في الحقول من الصباح إلى المساء

  • وبأن يلص فيقتلوه... (وتشرأب إلى السماء

  • كالمستغيثة وهي تبكي في الظلام بلا دموع)

  • والله - عز الله - شاء

  • أن تقذف المدن البعيدة والبحار إلى العراق

  • آلاف آلاف الجنود ليستبيحوا، في زقاق

  • دون الأزقة أجمعين

  • ذاك اسم جارتها الجديد، فليتها كانت تراها

  • هل تستحق اسما كهذا: ياسمين وياسمين؟

  • يا ليت حمالا تزوجها يعود مع المساء

  • لكن بائسة سواها حدثتها منذ حين

  • عن بيتها وعن ابنتيها، وهي تشهق بالبكاء

  • كالغيمة السوداء تنذر بالمجاعة والرزايا،

  • أزراره المتألقات على مغالق كل باب

  • مقل الذئاب الجائعات ترود غابا بعد غاب

  • وخطاه مطرقة تسمر، في الظلام، على البغايا

  • أبوابهن، إلى الصباح - فلا تجاهر بالخطايا

  • ويظل يخفرهن من شبع وينثر في الرياح

  • أغنية تصف السنابل والأزاهر والصبايا،

  • وتظل تنتظر الصباح وساعديه مع الصباح

  • تصغى - وتحتضن ابنتيها في الظلام - إلى النباح

  • وإلى الريح تئن كالموتى وتعول كالسبايا

  • وتجمع الأشباح من حفر الخرائب والكهوف

  • ومن المقابر والصحاري بالمئات وبالألوف..

  • فتقف من فزع وتحجب مقلتيها بالغطاء،

  • ويعود والغبش الحزين يرش بالطل المضاء

  • سعف النخيل... يعود من سهر يئن ومن عياء

  • - كالغيمة اعتصرت قواها في القفار، وترتجيها

  • عبر التلال قوي تجوع - لكي ينام إلى المساء:

  • عيش أشقّ من المنيّة، وانتصار كالفناء

  • وطوى يعب من الدماء وسمّ أفعى في الدماء

  • وعيون زان يشتهيها، كالجحيم يشعّ فيها

  • سخر وشوق واحتقار، لاحقتها كالوباء

  • والمال يهمس أشتريك وأشتريك فيشتريها

  • يا ليتها إذن انتهى أجل بها فطوى أساها!

  • لو أستطيع قتلت نفسي.. همسة خنقت صداها

  • أخرى توسوس: والجحيم؟ أتبصرين على لظاها؟

  • وإذا اكفهر وضاق لحدك، ثم ضاق، إلى القرار

  • حتى تفجر من أصابعك الحليب رشاش نار

  • وتساءل المكان فيم قتلت نفسك يا أثيمه؟

  • وتخطفاك إلى السعير تكفرين عن الجريمه.

  • أفتصرخين أبي فينفض راحتيه من الغبار

  • ويخف نحوك وهو يهتف قد أتيتك يا سليمه؟

  • حتى اسمها فقدته واستترت بآخر مستعار

  • هي - منذ أن عميت - ""صباح""...

  • فأي سخرية مريره!

  • أين الصباح من الظلام تعيش فيه بلا نهار

  • وبلا كواكب أو شموع أو كوى وبدون نار؟

  • أو بعد ذلك ترهبين لقاء ربك أو سعيره؟

  • القبر أهون من دجاك دجى وأرفق، يا ضريره

  • يا مستباحة كالفريسة في عراء يا أسيره

  • تتلفتين إلى الدروب ولا سبيل إلى الفرار؟

  • وتحس بالأسف الكظيم لنفسها: لم تستباح؟

  • ألهر نام على الأريكة قربها... لم تستباح؟

  • شبعان أغفى، وهي جائعة تلم من الرياح

  • أصداء قهقهة السكارى في الأزقة، والنباح

  • وتعد وقع خطى هنا وهناك: ها هو

  • هو ذا يجيء - وتشرئبّ، وكاد يلمس ... ثم راح

  • وتدقّ في أحد المنازل ساعة... لم تستباح؟

  • الوقت آذن بانتهاء والزبائن يرحلون.

  • كالدرب تذرعه القوافل والكلاب إلى الصباح؟

  • الجوع ينخر في حشاها، والسكارى يرحلون،

  • مروا عليها في المساء وفي العشية ينسجون

  • حلما لها هي والمنون:

  • عصبات مهجتها سداه وكل عوق في العيون،

  • والآن عادوا ينقضون -

  • خيطا فخيطا من قرارة قلبها ومن الجراح -

  • ما ليس بالحلم الذي نسجوا ما لا يدركون ...

  • شيئا هو الحلم الذي نسجوا وما لا يعرفون،

  • هو منه أكثر: كالحفيف من الخمائل والرياح،

  • والشعر من وزن وقافية ومعنى، والصباح -

  • من شمسه الوضاء... وانصرفواسكارى يضحكون!

  • ستعيش للثأر الرهيب

  • والداء في دمها وفي فمها. ستنفث من رداها

  • في كل عرق من عروق رجالها شبحا من الدم واللهيب

  • شبحا تخطف مقلتيها أمس، من رجل أتاها

  • سترده هي للرجال، بأنهم قتلوا أباها

  • وتلقفوها يعبثون بها وما رحموا صباها،

  • لم يبتغوها للزواج لأنها امرأة فقيره،

  • واستدرجوها بالوعود لأنها كانت غريره،

  • وتهامس المتقولون فثار أبناء العشيره

  • متعطشين - على المفارق والدروب - إلى دماها.

  • وكأن موجة حقدها ورؤى أساها.

  • كانت تقرب من بصيرة لبها صورا علاها

  • صدأ المدينة وهي ترقد في القرارة من عماها:

  • كل الرجال؟ وأهل قريتها؟ أليسوا طيبين؟

  • كانوا جياعا - مثلها هي أو أبيها - بائسين،

  • هم مثلها - وهم الرجال - ومثل آلاف البغايا

  • بالخبز والأطمار يؤتجرون، والجسد المهين

  • هو كل ما يتملكون، هم الخطاة بلا خطايا

  • ليس الذين تغصبوها من سلالة هؤلاء:

  • كانوا مقطبة الجباه من الصخور

  • ثمتص من فزع الضحايا زهوها ومن الدماء

  • متطلعين إلى البرايا كالصواعق من علاء!

  • وتحس، في دمها، كآبة كل أمطار الشتاء

  • من خفق أقدام السكارى، كالأسير وراء سور

  • يصغي إلى قرع الطبول يموت في الشفق المضاء.

  • هي والبغايا خلف سور، والسكارى خلف سور،

  • دميت أصابعهن: تحفر والحجارة لا تلين،

  • والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين:

  • وطلول مقبرة تضم رفات ""هابيل"" الجنين!

  • سور كهذان حدثوها عنه في قصص الطفوله:

  • ""يأجوج"" يغرز فيه، من حنق أظافره الطويله

  • ويعض جندله الأصم، وكف ""مأجوج"" الثقيله

  • تهوي، كأعنف ما تكون على جلامده الضخام.

  • والسور باق لا يثل... وسوف يبقي ألف عام،

  • الطفل شاب وسورها هي ما يزال كما رآه

  • من قبل يأجوج البرايا توأم هو للسعير!

  • لص الحجارة من منازل في السهول وفي الجبال

  • يتواثب الأطفال في غرفاتها ويكركرون...

  • والأمهات يلدن والآباء للغد يبسمون،

  • لم يبق من حجر عليها فهي ريح أو خيال.

  • وأدار من خطم البلاد رحى، وساط من البطون

  • ما ترتعيه رحاه من لحم الأجنة والعظام،

  • وكشاطئين من النجوم على خليج من ظلام

  • يتحرقان ولا لقاء ويخمدان سوى ركام -

  • شق الرجال عن النساء سلالتين من الأنام

  • تتلاقيان مع الظلام وتفصلان مع الشروق:

  • لو يقطعون الليل بحثا والنهار - على سواها

  • في حسنها هي؟ في غضارة ناهديها أو صباها

  • وبسعرها هي ؟ أي شيء غير هذا يبتغون؟

  • عمياء أنت وحظك المنكود أعمى يا سليمه.

  • وتلوب أغنية قديمه

  • في نفسها وصدى يوشوش: يا سليمه، سليمه

  • نامت عيون الناس. آه... فمن لقلبي كي ينيمه؟

  • ويل الرجال الأغبياء، وويلها هي، من عماها!

  • لم أصبحوا يتجنبون لقاءها؟

  • عيونها، فيخلفوها وحدها إذ يعلمون

  • بأنها عمياء؟ فيم يكابرون ومقلتاها

  • أدري وتعرف أي شيء في البغايا يشتهون

  • بنظرة قمراء تغصبها من الروح الكسيره

  • لترش أفئدة الرجال بها، وكانوا يلهثون

  • في وجهها المأجور، أبخرة الخمور، ويصرخون

  • كالرعد في ليل الشتاء

  • ولعل غيره ""ياسمين"" وحقدها سبب البلاء

  • فهي التي تضع الطلاء لها وتمسح بالذرور

  • وجها تطفأت النواظر فيه....

  • كيف هو الطلاء؟

  • وكيف أبدو؟

  • - وردة ... قمر... ضياء!

  • زور.. وكل الخلق زور،

  • والكون مين وافتراء

  • لو تبصر المرآة - لمحة مقلتيها - لو تراها

  • - لمح النيازك - ثم تغرق من جديد في عماها!

  • برق ويطفأ... ثم تحكم فرقها بيد، وفاها

  • بيد، وترسم بالطلاء على الشفاه لها شفاها

  • شفتاك عارية وخدك ليس خدك يا سليمه،

  • ماذا تخلف منك فيك سوى الجراحات القديمه؟

  • وتضم زهرة قلبها العطشى على ذكرى أليمه:

  • تلك المعابثة اللعوب... كأنها امرأة سواها!

  • كالجدولين تخوض ماءهما الكواكب - مقلتاها،

  • والشعر يلهث بالرغائب والطراوة والعبير

  • وبمثل أضواء الطريق نعسن في ليل مطير،

  • تقتات بالعسل النقي وترتدي كسل الحرير.

  • ليت النجوم تخر كالفحم المطفأ والسماء

  • ركام قار أو رماد، والعواصف والسيول

  • تدك راسية الجبال ولا تخلف في المدينة من بناء!

  • أن يعجز الإنسان عن أن يستجير من الشقاء

  • حتى بوهم أو برؤيا، أن عيش بلا رجاء...

  • أو ليس ذاك هو الجحيم؟ أليس عدلا أن يزول؟

  • شبع الذباب من القمامة في المدينة، والخيول

  • سرحن من عرباتهن إلى الحظائر والحقول،

  • والناس ناموا -

  • هذا الذي عرضته كالسلع القديمة: كالحذاء،

  • أو كالجرار الباليات، كأسطوانات الغناء...

  • هذا الذي يأبي عليها مشتر أن يشتريه

  • قد كان عرضا - يوم كان - ككل أعراض النساء!

  • كان الفضاء يضيق عن سعة، وترتخص الدماء

  • إن رنق النظر الأثيم عليه. كان هو الإباء

  • والعزة القعساء والشرف الرفيع. فشاهديه

  • يا أعين الظلماء، وامتلئي بغيظك وارجميه

  • بشواظ عارك واحتقارك يا عيون الأغبياء!

  • للموت جوعا، بعد موتي - ميتة الأحياء - عارا.

  • لا تقلقوا.. فعماي ليس مهابة لي أو وقارا.

  • مازلت أعرف كيف أرعش ضحكتي خلل الرداء

  • كالقمح لونك يا ابنة العرب،

  • كالفجر بين عرائش العنب

  • أو كالفرات، على ملامحه

  • دعة الثرى وضراوة الذهب.

  • عربية أنا: أمتى دمها

  • خير الدماء... كما يقول أبي.

  • تجري دماء الفاتحين. فلوثوها، يا رجال

  • أواه من جنس الرجال... فأمس عاث بها الجنود

  • الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود

  • يا ليت للموتى عيونا من هباء في الهواء

  • ترى شقائي

  • إلا العفاة المفلسين.

  • أنا زهرة المستنقعات، أعب من وحل وطين

  • وأشع لون ضحى...

  • وذكرا بجعجعة السنين

  • سعالها. ذهب الشباب!!

  • ذهب الشباب!! فشيعيه مع السنين الأربعين

  • ومع الرجال العابرين حيال بابك هازئين.

  • وأتي المشيب يلف روحك بالكآبة والضباب،

  • فاستقبليه على الرصيف بلا طعام أو ثياب،

  • يا ليتك المصباح يخفق ضوءه القلق الحزين

  • في ليل مخدعك الطويل، وليت أنك تحرقين

  • دما يجف فتشترين

  • سواه: كالمصباح والزيت الذي تستأجرين.

  • عشرون عاما قد مضين، وشبت أنت، وما يزال

  • يذرذر الأضواء في مقل الرجال.

  • لو كنت تدخرين أجر سناه ذاك على السنين

  • أثريت..

  • ها هو ذا يضيء فأي شيء تملكين؟

  • ويح العراق! أكان عدلا فيه أنك تدفعين

  • سهاد مقتلك الضريره

  • ثمنا لملء يديك زيتا من منابعه الغزيره؟

  • كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟

  • عشرون عاما قد مضين، وأنت غرثى تأكلين

  • بنيك من سغب، وظمأى تشربين

  • حليب ثديك وهو ينزف من خياشيم الجنين!

  • وكزارع له البذور

  • وراح يقتلع الجذور

  • من جوعه، وأتى الربيع فما تفتحت الزهور

  • ولا تنفست السنابل فيه...

  • ليس سوى الصخور

  • سوى الرمال، سوى الفلاه -

  • خنت الحياة بغير علمك، في اكتداحك للحياه!

  • كم رد موتك عنك موت بنيك. إنك تقطعين

  • حبل الحياة لتنقضيه وتضفري حبلا سواه،

  • حبلا به تتعلقين على الحياة: تضاجعين

  • ولا ثمار سوى الدموع، وتأكلين،

  • وتسهرين ولا عيون، وتصرخين ولا شفاه،

  • وغدا. وأمس ... وألف أمس - كأنما مسح الزمان

  • حدود ما لك فيه من ماض وآت

  • ثم دار، فلا حدود

  • ما بين ليلك والنهار، وليس، ثم، سوى الوجود

  • سوى الظلام، ووطء أجساد الزبائن، والنقود،

  • ولا زمان، سوى الأريكة والسرير، ولا مكان!

  • لم تسحبين ليالى السأم المسهدة الرتيبه؟

  • ما العمر؟ ما الأيام؟ عندك، ما الشهور؟ وما

  • السنين؟

  • ماتت ""رجاء"" فلا رجاء ثكلت زهرتك الحبيبه!

  • بالأمس كنت إذا حسبت فعمرها هي تحسبين.

  • كانت عزاءك في المصيبه،

  • وربيع قفرتك الجديبه.

  • كانت نقاءك في الفجور، ونسمة لك في الهجير،

  • وخلاصك الموعود، والغبش الكبير!

  • ما كان حكمه أن تجيء إلى الوجود وأن تموت؟

  • ألتشرب اللبن المرنق بالخطيئة واللعاب:

  • أو شال ما تركته في ثدييك أشداق الذئاب؟

  • مات الضجيج وأنت، بعد، على انتظارك

  • تتنصتين، فتسمعين

  • رنين أقفال الحديد يموت، في سأم، صداه:

  • الباب أوصد

  • ذاك ليل مر...

  • فانتظري سواه.



أعمال أخرى بدر شاكر السياب



المزيد...

العصور الأدبيه

اخطر 20 صورة سيلفي في العالم

اخطر 20 صورة سيلفي في العالم



أهم 12 نصيحه عند شراء شقتك بالتقسيط